بنت غزة ….بنت الحسب والنسب

بنت غزة ….بنت الحسب والنسب بقلم عبدالهادي راجي المجالي

بنت غزة ….بنت الحسب والنسب

الأسبوع الماضي، عرض التلفاز مشهدا لصبية من شمال (غزة)، وضعت (الطنجرة) على وجهها وهي تنتظر في صف توزيع الطعام، حتى لا يظهر الوجه الحنون للعالم...وفعلا لم تتمكن الكاميرا من التقاط إلا القليل من ملامح وجهها الأغر.

أنا لا أعرف اسمها ولا فصلها، لكني أسمع في (الجاهات)..حين يطلبون يد بنت ما يقولون: (بنت الحسب والنسب) ويقولون: (التي تربت في بيت العز)..ويقولون عن العروس: (سارت على درب الخلق)..ويقولون أيضا: (اخت رجال)...سؤالي المحدد هذه البنت التي أخفت ملامح وجهها في شمال غزة عن الكاميرا وهي تقف على طابور الطعام، ولا أظن عمرها قد تجاوز ال(17) عاما..ماذا سيقولون للعريس الذي سيأتي لطلب يدها...

هل سيقولون أنها تحملت الجوع ومرت عليها أيام طوال ولم يدخل جوفها غير الماء، هل سيقولون أنها توضأت بماء البحر..حين عجزت عن إيجاد ماء نقي للوضوء؟..هل سيقولون عنها..أنها انتشلت شقيقها الأصغر من تحت الركام، انتشلته جثة هامدة من دون روح، وقامت (بتكفينه)..وأخذته لمقبرة بعيدة كي تضمن أن يسجى في مستقره الأخير شهيدا نقيا طاهرا....ماذا سيقولون للجاهة التي جاءت لطلب يدها؟..هل سيقولون أنها عبرت من شمال غزة لجنوبها حافية القدمين، تجر دمعها خلفها..وتحمل فلسطين على كتفيها، وصبرت مثل أيوب...واستقرت في خيمة، وحين جلست كان البؤس يحيط بها من كل الجهات..لكنها كبرت ورفعت الأكف الطاهرات لربها ودعت وختمت الدعاء بالقول: (الحمد لله)..

يا سيدتي لو كان نعلك لدي لجعلته متكئا لحلمي وكل مقالاتي، لو كان كفك الأغر أمامي لتبركت به، وقلت للتاريخ أن يخجل من سطوره..من معاركه من كل البطولات الزائفة، لأخبرت التاريخ أن يتعلم من رموش البنات في غزة معنى الصبر..لأخبرته أن يتعلم من الجدائل معنى الشرف والكرامة والبسالة..ومعنى العقيدة والمبادئ...كاذب من يقول أن في غزة بعض الشواطئ، كلا غزة هي المدينة الوحيدة التي يستلقي فيها البحر على أكف الصبايا..هي المدينة الوحيدة التي ستكتب فيها الرموش تاريخ البشرية، والأظافر النسائية ستكتب أيضا معنى الصبر ومعنى الأنوثة.

أعود لسؤالي النازف للسؤال الدامي، ماذا سيقولون للجاهة الكريمة...هل سيقولون أن سطح البيت انهار على أهلها، وأنها حملت الأب وأخرجته..وحملت الأم أيضا ولم يتحرك غطاء رأسها، ولم تخرج خصلة من شعرها للريح...هل سيقولون أنها احتطبت مع الصغار وأوقدت نارها في الليل..هل سيقولون للجاهة الكريمة..أنها بقيت في رداء واحد مدة شهر كامل، لأن المخيم لا يحتوي إلا على خيمتهم والخيمة تنار بالصبر والرضى...ماذا سيقولون للجاهة الكريمة: بنت الحسب والنسب...؟ أي حسب هذا الذي أنتجته غزة...أنتجت حسبا أعلى من الحسب ذاته؟ وعن أي نسب نتحدث والشهداء فيها أعلى نسب وأعلى سارية..واطهر دم.

يا حلوة الروح، يا سيدة الفداء كله والصبر الجميل كله، يا سيدة فلسطين والبحر والعروبة...كل شعر نزار قباني سقط أمام صمودك، حتى أنك شطبت كل أشعار الغزل من تاريخ العرب..وأسست في مناهج اللغة فصلا من فصول الشعر واسميته: (شعر القذائف)...أنت يا حلوة الروح أعدت صياغة اللغة من جديد وأعدت صياغة الأدب العربي كله، ولا بد من مراجعة أشعار الغزل كلها...لأن الأهداب في غزة قاومت القذائف ولأن الشفاه هنالك قاتلت، ولأن الأجفان كانت مصدا للنار ومصدا للانكسار...

وسيبقى سؤالي معلقا..ولا أظن أن أحدا في الدنيا يستطيع الإجابة عليه..ماذا ستقول الجاهة الكريمة يا ترى..إن تقدم شاب لطلب يدها...؟؟

في المرة القادمة يا حلوة الروح، لا تخفي وجهك عن الكاميرات...نحن الذين يجب علينا أن نغطي وجوهنا...إن الهزيمة تجتاحني من وريدي إلى وريدي..أنا من أحتاج لدمل وجهي..

يا حلوة الروح....